الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من أقوال المفسرين: .قال القرطبي: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} قال المهدويّ: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلمًا للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض (في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام، بيّن لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض) له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره. اهـ..قال أبو السعود: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} أي له تعالى وحده من غير شِرْكةٍ أصلًا، ما فيهما من المخلوقات الفائتةِ للحصر مُلكًا وخلقًا إحياءً وإماتةً وإثابةً وتعذيبًا، وإيرادُ كلمةِ ما إما لتغليب غيرِ العقلاءِ وإما لتنزيلهم منزلةَ غيرِهم إظهارًا لحقارتهم في مقام بيانِ عظمتِه تعالى: {وإلى الله} أي إلى حُكمه وقضائِه لا إلى غيره شِرْكةً أو استقلالًا. اهـ..قال الألوسي: {وَللَّهِ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكًا وخلقًا وتصرفًا والتعبير بـ {ما} للتغليب أو للإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} أي أمورهم فيجازي كلًا بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب، وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالًا، والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين، وقيل: معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة، وقرأ يحيى بن وثاب (ترجع) بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن. اهـ..قال الفخر: احتج أصحابنا بقوله: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} على كونه خالقًا لأعمال العباد، فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض، فوجب كونها له بقوله: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} وإنما يصح قولنا: إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد.أجاب الجبائي عنه بأن قوله: {لِلَّهِ} إضافة ملك لا إضافة فعل، ألا ترى أنه يقال: هذا البناء لفلان فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله، وأيضا المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلهية نفسه، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح، وأيضا فقوله: {مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} إنما يتناول ما كان مظروفًا في السموات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض.أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعًا للتسلسل، وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية، وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقًا وتكوينًا بواسطة فعل السبب، فهذا تمام القول في هذه المناظرة. اهـ.فصل:قال الفخر:قوله تعالى: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السموات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية، فقدم السبب على المسبب، وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازمًا أيضا من هذا الوجه. اهـ..قال ابن عطية: وذكر الطبري: أن بعض البصريين نظر قوله تعالى: {وإلى الله} فأظهر الاسم، ولم يقل إليه بقول الشاعر:وما جرى مجراه، وقاله الزجّاج، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى.قال القاضي أبو محمد: والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف، إذ الكلام في معنى واحد، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع، وقرأ بعض السبعة، {تَرجع الأمور} بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل، وقد تقدم ذكر ذلك. اهـ. .قال الفخر: كلمة {إلى} في قوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة، بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه. اهـ..قال الجصاص: قال عليه الرحمة:بَابُ فَرْضِ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ:قَالَ الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ}.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ:أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.وَالْآخَرُ: أنه فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ إذَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ.لِقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَدَلَّ عَلَى أنه فَرْضُ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ.وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ مَخْرَجَ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْخُصُوصِ فِي قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} مَجَازًا، كَقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وَمَعْنَاهُ: ذُنُوبَكُمْ.وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أنه إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، كَالْجِهَادِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَتَكْفِينِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَدَفْنِهِمْ، وَلَوْلَا أنه فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَمَا سَقَطَ عَنْ الْآخَرِينَ بِقِيَامِ بَعْضِهِمْ بِهِ.وَقَدْ ذَكَرَ الله تعالى الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} وَقَالَ فِيمَا حَكَى عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ الله}.وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فَهَذِهِ الْآيُ وَنَظَائِرُهَا مُقْتَضِيَةٌ لِإِيجَابِ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهِيَ عَلَى مَنَازِلَ: أَوَّلُهَا تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ إذَا أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَكَانَ فِي نَفْيِهِ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ إذَا أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِمَا وَصَفْنَا فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ.كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْت طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ قَالَ: قَدَّمَ مَرْوَانُ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: خَالَفْت السُّنَّةَ كَانَتْ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ قَالَ: تُرِكَ ذَلِكَ يَا أَبُو فُلَانٍ قَالَ شُعْبَةُ: وَكَانَ لَحَّانًا فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا الْمُتَكَلِّمُ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، قَالَ لَنَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الإيمان».وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الإيمان».فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَدَلَّ عَلَى أنه إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ تَغْيِيرَهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ بِلِسَانِهِ، ثُمَّ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ إنْكَارِهِ بِقَلْبِهِ.وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَهُمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ، وَأَعَزُّ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرُوا إلَّا عَمَّهُمْ الله مِنْهُ بِعِقَابٍ».وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسرائيل كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ الله وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَك، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أن يكون أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ الله تعالى قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} إلَى قوله: {فَاسِقُونَ}.ثُمَّ قَالَ: كَلًّا وَالله لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا».قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ الْحَنَّاطُ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَزَادَ فِيهِ: {أَوْ لَيَضْرِبَنَّ الله بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ}.فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يُنْكِرَهُ ثُمَّ لَا يُجَالِسَ الْمُقِيمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يُؤَاكِلَهُ، وَلَا يُشَارِبَهُ.وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بَيَانًا لِقوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَكَانُوا بِمُؤَاكَلَتِهِمْ إيَّاهُمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ لَهُمْ تَارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِقوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} مَعَ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنْكَارِهِ بِلِسَانِهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْفِهِ مَعَ مُجَالَسَتِهِ وَمُؤَاكَلَتِهِ وَمُشَارَبَتِهِ إيَّاهُ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أيضا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ الله بِعِقَابٍ».وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْعَتَكِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ: سَأَلْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْت: «يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فَقَالَ: أَمَا وَالله لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك يَعْنِي بِنَفْسِك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ كَقَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ.قَالَ: وَزَادَنِي غَيْرُهُ: قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».وَفِي هَذِهِ الأخبار دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَهُمَا حَالَانِ: حَالٌ يُمْكِنُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ وَإِزَالَتُهُ، فَفُرِضَ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ إزَالَةُ ذَلِكَ بِيَدِهِ أَنْ يُزِيلَهُ؛ وَإِزَالَتُهُ بِالْيَدِ تَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أن لا يُمْكِنَهُ إزَالَتُهُ إلَّا بِالسَّيْفِ، وَأَنْ يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِ فَاعِلِ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.كَمَنْ رأى رَجُلًا قَصَدَهُ أَوْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالٍ أَوْ قَصَدَ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أنه لَا يَنْتَهِي إنْ أَنْكَرَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ قَاتَلَهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رأى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ»، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ بِيَدِهِ إلَّا بِقَتْلِ الْمُقِيمِ عَلَى هَذَا الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَرْضًا عَلَيْهِ.وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أنه إنْ أَنْكَرَهُ بِيَدِهِ وَدَفْعَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ انْتَهَى عَنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أنه إنْ أَنْكَرْهُ بِالدَّفْعِ بِيَدِهِ أَوْ بِالْقَوْلِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَفْعُهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَةُ هَذَا الْمُنْكَرِ إلَّا بِأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ غَصَبَ مَتَاعَ رَجُلٍ: وَسِعَكَ قَتْلُهُ حَتَّى تَسْتَنْقِذَ الْمَتَاعَ وَتَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي السَّارِقِ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ: وَسِعَكَ أَنْ تَتْبَعَهُ حَتَّى تَقْتُلَهُ إنْ لَمْ يَرُدَّ الْمَتَاعَ.قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اللِّصِّ الَّذِي يَنْقُبُ الْبُيُوتَ: يَسَعُكَ قَتْلُهُ.وَقَالَ فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك، قَالَ فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ.وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ الله} فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ.وَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ إلَّا بَعْدَ الْفَيْءِ إلَى أَمْرِ الله تعالى وَتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْمُنْكَرِ.وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» يُوجِبُ ذَلِكَ أيضا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِهِ بِيَدِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ تَغْيِيرُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ قَتْلُهُ حَتَّى يُزِيلَهُ.وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصْحَابِ الضَّرَائِبِ وَالْمُكُوسِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَمْتِعَةِ النَّاسِ: إنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ.وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ مِنْهُ لَهُ، وَلَا التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ إذَا كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِحَظْرِهِ، وَمَتَى أَنْذَرَهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعُوا مِنْهُ حَتَّى لَا يُمْكِنَ تَغْيِيرُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ، فَجَائِزٌ قَتْلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ تَرْكُهُمْ لِمَنْ خَافَ إنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ أَنْ يُقْتَلَ؛ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِنَابَهُمْ وَالْغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَهِجْرَانَهُمْ.وَكَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ مُصِرًّا عَلَيْهَا مُجَاهِرًا بِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَتَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِيَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ، وَذَلِكَ إذَا رَجَا أنه إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ أَنْ يَزُولُوا عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَرْجُ ذَلِكَ، وَقَدْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بأنه مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ وَسِعَهُ السُّكُوتُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُجَانِبَهُمْ وَيُظْهِرَ هِجْرَانَهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ».
|